2010/11/18

رحيل عميد مدوني القدس!


أبو داوود.. ستيني أدمن التدوين الهادف!
هنادي قواسمي - الجزيرة توك - القدس المحتلة

"بلا طموح"، "غير متفاعل"، "لا يتقدم" ، صفات يحظى بها بعض الشباب السلبي الذين يكثرون التعلل بالظروف أو ضيق الوقت أو التعب. هذا حال بعض الشباب ، أما كبار السنّ فلسنا بحاجة لوصفهم ، إذ كثيراً ما "نغسل أيدينا" منهم معتبرين أنهم آخر من يحمل همّ التغيير، وأبعد من يمكن أن يتفاعل وينشط أو يؤثر في محيطنا.

لكنها الأيام حُبلى بالعبر، تثبت لنا أن الشباب شباب الروح والقلب، ترسل لنا من يعطينا درساً أن الكسول كسول ولو كان ابن العشرين، وأن صاحب القضية هُمام ولو غزا الشيبُ شعرَه ولاقى في سبيل قضيته ما لاقى!

كان المعلِّم في هذا الدرس صاحب مدونة "
خواطر أسير محرر" "عمي أبو داوود" كما كنا نسميه، نحن الصديقات، فيما بيننا. كانت بداية تعرفنا على عالم التدوين، افتتحنا مدوناتنا الخاصة وانفتحنا على العالم الخارجي عبر شبكة الانترنت. كنا نحاول جاهدات نشر فكرة التدوين بين صفوف من نعرف من الطلبة في الجامعة. أحياناً يصيبنا الاحباط من "شيخوخة" قلوب بعض أبناء العشرين، أبناء المستقبل، طلاب الجامعات المرموقة!


لكن الأمل جاءنا من شيخ بلغ الستين من عمره، تنظر في ملامح وجهه فتظنه أكبر من ذلك بكثير، "الفضل" في ذلك لسنوات الأسر الطويلة التي قضاها في سجون الاحتلال. إنه "عمي أبو داوود"، والد صديقتنا فاطمة التي ذهبتْ إليه قبل حوالي عامين من اليوم بخبر المدونات، فلم يسخر، لم يقلل من قيمتها، لم يقل: وأنا مالي!.. بل تفاعل مع "الإعلام الجديد" و طلب منها المساعدة في فتح مدونته الشخصية!



وهكذا في حزيران 2008 بدأ "عمي أبو داوود" نشاطه التدويني. نعم، ليس هذا خيالاً! أبو داوود ابن الستين الذي لم يتخرج إلا من جامعة الحياة، الذي لا يحمل شهادةً سوى شهادة الإيمان بإمكانية الفعل واستمرارية العطاء، يجلسُ أمام شاشة هذا المسمى "كمبيوتر" ويتعامل مع "بلوجر" ، يزخرف تدويناته، وينشرها في المنتديات وعبر البريد الإلكتروني، ويرد على التعليقات، ويتابع غيره من المدوّنين!



لدى الرجل الذي قضى 15 عاماً في سجون الاحتلال الكثير ليقال، فاتخذ التدوين ساحة لذلك. كان ينشر تدوينات مفصلة عن خبايا الاعتقال وتفاصيله. كان يؤمن بأهمية التواصل ونقل الخبرات والمعارف بين الأجيال، يعرف أن تجربة الاعتقال غنية وفريدة من نوعها، وأنه يتوجب نقلها وتدارسها مع الجيل الجديد و الوقوف عند السلبيات والإيجابيات بعيداً عن العواطف – كما يخبرنا في إحدى تدويناته الأوائل. يحدثنا في سلسلة طويلة من أكثر من أربعين لقاء عن حياة الأسر، عن التعذيب وأساليبه، عن النقاشات الفكرية الساخنة داخل السجن، عن طعم رمضان وراء القضبان، عن رفقة الشيخ أحمد ياسين في الزنزانة، وعن وعن! عجبنا لسرعة تفاعله وانفتاحه على التكنولوجيا الحديثة، لنراه بعد ذلك ينفتح أكثر على قرائه فيُفرد لهم تدوينة خاصة ليجيب على أي سؤال يطرحونه!



كما لم يقلل هو من فاعلية وسائل الاعلام الجديد، لا تغيب عنا نحن أهمية شهادته عن تجربة الاعتقال في ظل ما تعانيه الساحة الفلسطينية من ضعف عمليات التوثيق التاريخي. و بينما يتعلل البعض بالميزانيات وقلة الإمكانيات فتبقى الرواية التاريخية الفلسطينية شفوية تضيع في القبور مع وفاة أصحابها، بادر "عمي أبو داوود" ولم ينتظر دعماً، أيقن أن الحركة بركة وأنه مهما تكن الظروف يمكنه أن يفعل شيئاً وأن يترك أثراً ولو بأبسط الوسائل.



وبينما قد يظنُّ البعض أن للمناضل يوماً يتقاعد فيه ويعتزل العطاء، إلا أن عمنا أبو داوود لم يكن من هؤلاء. كان صاحبنا يعرف معنى "الأرض" وقيمتها خاصة للمقدسيّ المحاصر في بلده. كانت له قطعة أرض يهلك نفسه ، وهو كبير السن الذي يتوجب عليه العناية بصحته، ليفلحها ويرعاها. كان "ابن البلد" بحق وحقيق. في ظل اهمال بلدية القدس الاحتلالية للأحياء العربية فيها، أطلق أبو داوود في بلدته العيسوية – شرق القدس أطلق مشروع "أجمل حارة" وكان له الدور الأكبر في
تبليط حارته وتنظيفها وإنارتها. ولأن قيمة الأراضي والحارات منقوصة بلا عنصر بشري فاعل يعمرها، اهتم "عمي أبو داوود" بالجيل الصاعد فداوم على التطوع في روضة للأطفال في بلدة العيسوية شرقي القدس المحتلة، وكان ينقل لنا عبر مدونته أخبار روضة أخرى التحقت بها طفلته الصغيرة.



كنا نحن بنات العشرين الممتلئات فخراً بثقافتنا وعلمنا نشعر بصغرنا أمامه، نخجل حينما نرى همته التي لا تنطفىء في التدوين وعلى أرض الواقع. كان لا يكل ولا يملّ. آخر مرة رأيته فيها كانت قبل حوالي شهر، كان مرابطاً وقتها مع النواب المقدسيين المهددين بالابعاد في خيمة اعتصامهم، وبقي كذلك حتى دخوله المستشفى الأسبوع الماضي. كنا نتمنى لو يخفف نشاطه قليلاً حتى لا يفضح كسلنا!



كان دائما بشوشاَ كلما سمعنا قصة من قصصه على لسان ابنته فاطمة ننظر إليها مذهولين "هذا شاب في هيئة شيخ"! وإذا شغلتها الدراسة عن نقل أخباره لنا كنا نبادرها : "كيف حال عمي أبو داوود"؟ حتى أننا كنا نمازحها أحياناً فنقول لها " أبوك ما بده يتني؟ ترى الشرع محلله"! و أذكر تماما أننا غالباً ما نختم أي لقاء او اتصال مع فاطمة بعبارة " سلمي على أبوكِ، وخليه يدعيلنا!"



عمنا أبو داوود لن يحرجنا بعد الآن بنشاطه الفائق، فيوم الأربعاء الماضي أيقظني لصلاة الفجر هاتف من ابنته تنقل لي خبر وفاته إثر جلطة قلبية لم تمهله طويلاً. رحل أبو داوود في جنازة مهيبة عن مدينة أحبها وأحبته، رحل وزوايا القدس تشهد له بنشاطه وحركته.. ووينضم التدوين الذي شغف به إلى قائمة الشهود، وقد أخبرتني فاطمة أنه عبر ذات مرة مازحاً عن رغبته باصطحاب "لابتوب" معه في القبر. ولكن الله يبعث له من يقدر جهده، فها هي صحفية من غزة تنوي جمع تدويناته عن تجربة الاعتقال في كتاب، يُذكرني ذلك بما يتكرر من قصة الفنان الموهوب الذي لا يعرف الناس عنه ابداعه إلا بعد رحيله.. فيخلد بعد ذلك ذكره.



رحمك الله يا أبا داوود ..بفعلك قبل قولك ..حفزتنا على العطاء أكثر


وفاة العم المدون محمد أبو داوود درويش




شاءت أقدار الله أن يرحل هذا العم الطيب قبل أن ألتقيه، وعلى الرغم من أنه شاركني وزوجي زفافنا، الا أني قد التقيت بثا من روحه في ابنته صديقتي فاطمة درويش،

بعد أن عرفناه عرفنا وهن رجال الأمة الذين يقضون نحبهم قبل أن ينقضي فعلا، ويتقاعدون عن العطاء في سن مبكرة، كما لم يكن هو.

كان شابا على الرغم من ستينياته، على علاقة رائعة بأفراد عائلته، فاطمة ابنته كانت صديقته ولا تكف عن الحديث عنه وعما يقول أو يفعل.

وقد شرفه التضحية بسني عمره لأجل أرض فلسطين، بعد أن منحها ومنح حريتها 15 عاما في سجون الاحتلال الاسرائيلي، دوّن تجربته فيها من خلال افتتاحه مدونة "خواطر أسير محرر"، وقد أصابنا العجب العجاب لانفتاح هذا الرجل على التحديثات التكنولوجية وتفاعله معها،ومنحنا سطورا نابضة عن هذه التجربة.

أحب الاسلام وحل أينما تحل فرصة العطاء لهذا الدين العظيم، ودعم ابنته على خوض غمار العمل الاسلامي الجامعي ولم تراوده تخوفات نالت من فلسطينيي 67 من أهل القدس المحتلة، وناصرها وناصرنا دائما.

نرجو على الله أن يتغمده برحمته ويغفر له ويتقبله من الصالحين عنده. وندعو الله أن يصبر أهله فقل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا .

كتبتها: ميساء أحمد